إيران تتجنب رفع أسعار الوقود خوفًا من تكرار احتجاجات "نوفمبر الدامي"

تعود طهران مجددًا للمشي على رؤوس أصابعها في ملف أسعار البنزين تحت ظل ثقيل تخيّمه احتجاجات "نوفمبر 2019"، التي تحوّلت إلى واحدة من أكثر حملات القمع دموية في تاريخ النظام الإيراني.
صحافية ومحللة سياسية - إيران إنترناشيونال

تعود طهران مجددًا للمشي على رؤوس أصابعها في ملف أسعار البنزين تحت ظل ثقيل تخيّمه احتجاجات "نوفمبر 2019"، التي تحوّلت إلى واحدة من أكثر حملات القمع دموية في تاريخ النظام الإيراني.
وتُعدّ أسعار الوقود من أكثر الملفات حساسية سياسية في إيران، حتى إن مجرد الإيحاء بإمكانية تغييرها يكفي لإثارة القلق داخل المنظومة السياسية بأكملها.
وكما حذّر هذا الأسبوع موقع "برترین ها" الإخباري الشعبي: "الظروف الهشّة في البلاد.. بلغت حدًا يجعل مجرد طرح احتمال زيادة الأسعار قادرًا على إطلاق موجة من القلق وردود الأفعال غير المتوقعة".
والذكرى، التي تغذّي هذه المخاوف، ليست بعيدة. قبل ست سنوات، أدى الرفع المفاجئ والمباشر لأسعار البنزين بنسبة 50 في المائة للوقود المدعوم، وبنسب أعلى بكثير على الكميات غير المدعومة، إلى اندلاع احتجاجات على مستوى البلاد خلال ساعات قليلة.
وكانت تلك واحدة من أسرع موجات السخط انتشارًا منذ عام 1979 ولا تزال جرحًا وطنيًا مفتوحًا.
وكتب مستخدم على منصة "إكس" يُدعى حامد، في إشارة إلى احتجاجات نوفمبر (تشرين الثاني) 2019": "أولئك الذين شهدوا أحداث نوفمبر الدامي لن يستطيعوا الضحك من أعماق قلوبهم طوال حياتهم. لقد بقينا على قيد الحياة فقط لنرى يوم الانتقام".
مخاطرة الإصلاح
يقول اقتصاديون إن النموذج الحالي غير قابل للاستمرار: فالتكلفة الفعلية لاستيراد البنزين ارتفعت إلى 700 ألف ريال (نحو 65 سنتًا) للّتر، بينما لا تزال أسعار التجزئة المدعومة عند ما يزيد قليلاً على سنت واحد للّتر.
وتُقدّر الأعباء الملقاة على موازنة الحكومة هذا العام بنحو 6 مليارات دولار.
وكان الرئيس الإيراني، مسعود بزشکیان، قد تعهّد بإصلاح منظومة الدعم الضخمة والمكلفة في إيران، لكن الخطر السياسي يكاد يكون حاضرًا في كل خطوة.
وتصرٍ الجهات الرسمية على أن الحصص الشهرية (60 لترًا بسعر 1.3 سنت و100 لتر بسعر مضاعف) ستبقى دون تغيير، على الأقل في الوقت الحالي. كل تصريح يصدر عن المسؤولين يُصاغ بعناية شديدة بهدف طمأنة الرأي العام وتجنّب أي انطباع- حتى لو كان بسيطًا- بوجود زيادة وشيكة.
ظلّ "نوفمبر الدامي"
لم تكن احتجاجات 2019 متعلقة بالوقود وحده؛ فقد كشفت عن غضب أعمق تجاه الفساد وعدم المساواة والجمود السياسي. لكن البنزين كان الشرارة التي أشعلت الفتيل.
وجاء إعلان الزيادة جاء في الساعات الأولى من يوم 15 نوفمبر، دون نقاش أو تمهيد. وفي غضون ساعات، انتشرت التظاهرات في عشرات المدن، خصوصًا في المناطق العمالية الأكثر تضررًا من التضخم والعقوبات.
وسرعان ما تبنى المتظاهرون شعارات سياسية أوسع، بينها الدعوة لإسقاط المرشد الإيراني، علي خامنئي.
وكان رد النظام الإيراني سريعًا وبقوة غير مسبوقة. انقطع اتصال البلاد بشبكة الإنترنت العالمية لنحو أسبوع، ما جعل التغطية المستقلة شبه مستحيلة. واستخدمت قوات الأمن الرصاص الحي، وغالبًا ما صُوّبت الطلقات نحو الرأس والصدر، بحسب منظمات حقوقية.
وأكدت منظمة العفو الدولية مقتل ما لا يقل عن 321 شخصًا؛ فيما نقلت "رويترز" عن مسؤولين إيرانيين أن العدد بلغ نحو 1,500 قتيل.
وتم اعتقال الآلاف. بعضهم- مثل عرفان صابری موحد- اختفوا وما زالوا مفقودين حتى اليوم. كما أُعدم لاحقًا اثنان من المتظاهرين، وهما كامران رضایي وهاني شهبازي، بعد اتهامهما بـ "الحرابة".
وبالنسبة للطبقة السياسية في إيران، يبقى نوفمبر 2019 درسًا تحذيريًا شديد الوضوح، وتذكيرًا قويًا بمدى سرعة تحوّل السخط الاقتصادي إلى انتفاضة وطنية.
ولهذا، بعد ستّ سنوات، لا يزال مجرد "الهمس" حول أسعار البنزين كافيًا لبثّ الرعب في طهران.


يبني أبناء الطبقة الحاكمة صاحبة الامتياز في إيران مستقبلهم في الخارج؛ ذلك المستقبل نفسه الذي حرم منه آباؤهم ملايين الإيرانيين لما يقرب من نصف قرن.
إن كل مجتمع لديه طبقته صاحبة الامتياز، لكن قلّما يتجلى الشرخ بين الحاكمين والمحكومين بوضوح كما هو الحال في إيران.
فلا يزال قادة طهران يصرّون على أن النظام الذي شُيّد بعد ثورة عام 1979 نظامٌ نزيه ومستقل وأخلاقيًا أرقى من الغرب. ويؤكدون أن إيران مكتفية ذاتيًا ومحصّنة ثقافيًا ضد النفوذ الأجنبي، وأن على المواطنين العاديين البقاء أوفياء وتحمل المشقة والنظر إلى العزلة كفضيلة. لكن هذه الرواية تسقط سريعًا عندما يتعلّق الأمر بأسرهم هم أنفسهم.
فأبناء أقوى الشخصيات السياسية والعسكرية والدينية في إيران يختارون، في الغالبية الساحقة، العيش خارج البلاد؛ في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا وأستراليا. يدرسون في جامعات غربية، يعملون في مؤسسات غربية، ويتمتعون بالحريات الغربية.
هذا ليس حدثًا عابرًا ولا استثناءً؛ بل نمط متكرر حتى أن الإيرانيين صاغوا له تسمية خاصة: "دياسبوراي الامتياز" — أي شتات أبناء النخبة الحاكمة الذين يبنون مستقبلهم خارج البلاد، بينما يبقى معظم الشعب الإيراني محاصرًا داخلها.
قائمة تطول بلا نهاية
انظر مثلًا إلى عائلة لاريجاني؛ إحدى العائلات التي كانت لسنوات طويلة في قلب هندسة السلطة داخل النظام.
فعلي لاريجاني — الذي شغل مناصب رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون، والمفاوض النووي، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي، ورئيس البرلمان — حذّر الإيرانيين مرارًا من "خطر النفوذ الأميركي".
ومع ذلك، تعيش ابنته، وهي طبيبة، في ولاية أوهایو حيث تمارس مهنتها في البلد الذي كان والدها يصفه بأنه "تهديد لوجود" إيران.
مثال آخر: يحيى رحيم صفوي، القائد السابق للحرس الثوري وأحد أبرز مستشاري المرشد، ومن مهندسي مفهوم "المقاومة الثقافية" والمشرفين على تطبيق "الحجاب الإجباري".
ابنته اليوم تعيش بحرية في أستراليا، وتتمتع بالخيارات نفسها التي حُرمت منها النساء الإيرانيات لعقود.
حتى العائلات المصنّفة ضمن "التيار المعتدل" أو "الإصلاحي" تسلك المسار ذاته.
فقد غادرت ابنتا الرئيس الأسبق محمد خاتمي إلى الخارج للدراسة وعاشتا طويلًا هناك. وكذلك فعلت ابنة أخت حسن روحاني، الموصوفة بـ"ابنة أحد كبار المفاوضين النوويين". وعندما تلوح الفرص الخارجية، تتلاشى الخلافات بين التيارات.
ويتكرر النمط نفسه في حالات أخرى: معصومة ابتكار — أحد وجوه احتلال السفارة الأميركية عام 1979 — أرسلت ابنها بعد عقود إلى لوس أنجلوس للدراسة؛ المدينة التي صُوِّرت لجيلها يومًا بأنها رمز "الفساد والانحطاط".
وسلك شقيقا نوبخت، الطبيبان البارزان في مؤسسات أميركية مرموقة، المسار ذاته، رغم أن والدهما وعمهما ساهموا في صياغة السياسات الاقتصادية التي أفقرت المستشفيات الإيرانية.
حتى أحفاد أعلى رجال الدين جزء من هذا الخروج.
فهذه زهرا تخشيد، حفيدة محمد رضا مهدوي كني — الرئيس الأسبق لمجلس خبراء القيادة و"حارس الطهارة الأيديولوجية" — تُدرّس اليوم القانون في جامعة أميركية، وتعمل على قضايا الحريات الرقمية؛ وهي موضوعات تُواجَه بالقمع داخل إيران.
هجرة قائمة على صفقة
تُظهر هذه الأمثلة جميعها حقيقة يعجز النظام عن إخفائها: حكام إيران لا يثقون بالنظام الذي فرضوه على شعبهم.
فلو كانوا يثقون به، لبقي أبناؤهم في الداخل، ودرسوا في جامعاته، واعتمدوا على مستشفياته، وبنوا مستقبلهم في المجتمع الذي يحكمه آباؤهم. لكنهم يغادرون، بهدوء وباستمرار.
هذه الهجرة ليست أيديولوجية؛ بل قائمة على صفقة.
فالقرب من السلطة يفتح أبواب العالم: جوازات سفر غربية، تأشيرات طويلة، شهادات رفيعة، ووظائف ذات دخل عالٍ.
بينما يواجه المواطنون العاديون العقوبات والتضخم والبطالة وقيود السفر.
هذا ليس نمط الهجرة المفروضة على الناس بسبب القمع أو الانهيار الاقتصادي؛ بل هجرة أبناء الطبقة الحاكمة، وهي ابنة الامتياز والتناقض.
أعلى صوتًا من أي شعار
من حق أبناء هذه الطبقة أن يعيشوا حيث يشاؤون، لكن اختياراتهم — هذا الخروج الصامت — تقول الكثير.
فعندما يفضّل أبناء الوزراء والقادة ورؤساء البرلمان وشخصيات الثورة لوس أنجلوس على طهران، وكليفلاند على قم، وملبورن على مشهد، وواشنطن على أصفهان، فإنهم يصدرون حكمًا أوضح من أي بيان للمعارضة:
هذا النظام غير كافٍ حتى لِمُهندسيه.
النظام يطلب الولاء من الشعب، بينما لا يريد ورثته العيش تحت الشروط نفسها. وهذا هو جوهر النفاق السياسي: التقييد على الإيرانيين العاديين، والحرية ميراث حصري لأبناء النخبة.
ولا يمكن لنظام يهرب أبناؤه من أيديولوجيته أن يدّعي الشرعية.
ولا لثورة تخلّى عنها ورثتها أن تدّعي النجاح.
ونظام يصدّر أبناء طبقته صاحبة الامتياز إلى الغرب بينما يبقي شعبه محاصرًا، ليس نموذجًا؛ بل تناقضًا ينهار تحت ثقل أكاذيبه.

مشروع نقل مياه الخليج إلى طهران هو أحدث نسخة من الوصفة نفسها التي طُرحت عشرات المرات خلال العقود الأربعة الماضية دون أن تحل شيئًا.
وصفات تشبه بناء السدود غير المدروسة، ونقل المياه إلى الهضبة الوسطى، وتمديد الأنابيب من بحر عُمان، والتحلية الصناعية واسعة النطاق، أو إيصال المياه الطارئ إلى أصفهان.
في كل مرة، هناك مشروع ضخم، رقم فلكي، ووعد عاجل. ودائمًا خلف هذه المشاريع هناك النمط نفسه: مشاريع بالمليارات، مقاولون مرتبطون بالسلطة، ونتائج شبه معدومة.
المشروع الجديد لا يختلف. فمنذ البداية يتضح أن نقل المياه عبر آلاف الكيلومترات، وتجاوز سلسلة جبال زاغروس، وتحلية مكلفة تُنهك قطاع الطاقة، لا يمكن أن يكون حلًا واقعيًا.
الخبراء، من اختصاصيي البيئة إلى مهندسي المياه، يجمعون على عبارة واحدة: هذا المشروع غير اقتصادي، غير بيئي، وغير قابل للتنفيذ تقنيًا.
لكن بالنسبة لـ"نظام المقاولات" التابع للحرس الثوري، يمثل هذا المشروع كل شيء؛ فهو النموذج المعتاد لانطلاق المشاريع الفاشلة.
في الواقع، نقل المياه إلى طهران ليس فكرة جديدة. ففي العقود الماضية، طُرح مشروع نقل المياه من بحر قزوين بكلفة مئات الملايين من الدولارات، لكنه لم يصل قط إلى مرحلة التنفيذ.
أما مشروع نقل المياه الخليجية إلى يزد وكرمان، فرغم استمرار ضخ الأموال فيه لسنوات، فإن أزمة المياه في هاتين المحافظتين أصبحت أعمق.
ومشروع نقل المياه إلى الهضبة المركزية، الذي كان يُروّج له باعتباره مشروعًا إنقاذيًا، ابتلع أكثر من 15 ألف مليار تومان دون تحقيق أيٍّ من أهدافه.
وجميع هذه المشاريع تتشارك نقطة واحدة: أموالا هائلة، نتائج شبه صفرية، وتقارير سرية تشير إلى أن أكبر المستفيدين هم المقاولون المقرّبون من الحرس الثوري.
وفي المقابل، تزداد طهران عطشًا؛ عطشًا للمياه وعطشًا للإدارة. فسنوات من التحذيرات بشأن الإفراط في الاستهلاك، وغياب إعادة استخدام المياه الصناعية، وتآكل شبكة إمداد المياه بنسبة 30 إلى 40 في المائة، والاستنزاف العشوائي للمياه الجوفية، حولت العاصمة إلى "عاصمة الهبوط الأرضي".
اليوم تهبط أرض طهران بمعدلات تتجاوز المعايير العالمية، لكن "الوصفة" المطروحة هي مشاريع عملاقة، وليست إصلاحات أساسية.
وعند التدقيق، يتضح أن مشروع نقل المياه الخليجية إلى طهران لا علاقة له بالمياه أصلًا؛ بل يتعلق بـ"النهب المنظّم"، وبشبكة من المقاولين الذين يحولون كل أزمة إلى فرصة ربح.
فكل مشروع تتجاوز ميزانيته عشرات الآلاف من المليارات هو في الواقع عملية نقل للثروة. وعلى مدى السنوات الماضية، ابتلعت مشاريع مثل "منظومة كرمسیری"، و"سد كتوند"، و"مشروع تشابهار–زاهدان"، و"صرف صحي طهران"، ومشاريع المياه في أصفهان، مليارات الدولارات، فيما فشل كثير منها أو فاقم الأزمات.
المثال الواضح هو سد كتوند، فقد بلغت كلفة بنائه 3 آلاف مليار تومان، لكنه تسبب في خسائر بمليارات أخرى، ورفع ملوحة نهر كارون، وتجاوزت كلفة أضراره اليوم كلفة بنائه الأصلية.
مثال آخر: مشاريع نقل المياه إلى أصفهان ويزد، التي خلقت توترات اجتماعية وبيئية، دون أن توفر حتى كوبًا واحدًا من المياه المستدامة للمستهلك النهائي.
مجلة "بیام ما" حذرت مؤخرًا من أن قرار الحكومة ببناء ثلاثة سدود جديدة سيُفاقم أزمة المياه بدل حلها.
ومع هذا التاريخ الطويل من الإخفاقات، فإن مشروع نقل المياه الخليجية إلى طهران يبرهن على أن إدارة المياه في إيران أسيرة "الدورة نفسها" التي أوصلت الاقتصاد والبيئة والبنى التحتية إلى وضعها الحالي: دورة صناعة الأزمة، وصناعة المشروع، ونهب الميزانيات.
والحقيقة أنه لو استُثمرت هذه الأموال في إعادة تدوير المياه الصناعية، لكانت طهران اليوم من أكثر المدن أمانًا مائيًا في المنطقة. ولو جرى إصلاح الشبكة المتهالكة، لما ضاع 30 في المائة من مياه الشرب. ولو ضُبطت عملية استنزاف المياه الجوفية، لما أصبحت طهران مدينة الهبوط الأرضي.
لكن لا شيء من ذلك يعود بالنفع على شبكة المقاولين المنتفعين من السلطة. مرة أخرى، غيّر النظام الإيراني "مضمون المشكلة"؛ فحول أزمة المياه إلى مشروع ربحي ضخم قابل للفساد بدل أن كان سياسة علمية وهيكلية مستدامة.
وفي النهاية، لن يصل الماء إلى طهران؛ لكن الميزانيات ستصل إلى من يستهدفهم النظام. وهذه هي القصة المتكررة في إيران طوال 45 عامًا.
بلد كان يمكن أن يمتلك أحد أفضل أنظمة المياه في الشرق الأوسط أصبح أسير نظام يدير الأزمات بدل حلها.
لقد تحولت المياه، كما الكهرباء والهواء والتعليم والصحة والاقتصاد، إلى منطقة خاصة للشركات شبه الحكومية والأجهزة الأمنية. وبالتالي، القضية ليست نقل المياه، بل نقل الثروة.
وطالما بقيت السلطة "عطشى للمال والفساد والمشاريع غير المدروسة"، ستبقى إيران عطشى إلى الأبد.

بين عامي 1966 و1969، كانت الأرجنتين تحت حكم ديكتاتوري عسكري بقيادة الجنرال خوان كارلوس أونغانيا. قمع نظامه الأكاديميين، وسيطر على النقابات العمالية وألغى الأحزاب السياسية.
وخلال هذه الفترة، اندلعت احتجاجات عديدة، بما في ذلك إضرابات عمالية في سانتا في، روساريو وبوينس آيرس، إلى جانب انتفاضات طلابية في بعض الجامعات واحتجاجات محلية ضد السياسات الاقتصادية. لكنها كانت متفرقة وسهلة القمع، ولم تنشأ بعد أزمة شرعية واسعة للنظام الديكتاتوري.
في أوائل 1969، أصدر النظام فجأة قوانين عمل جديدة غيّرت ساعات العمل ونظام العمل الإضافي والرواتب، لصالح الشركات الأجنبية في الغالب.
وفي مايو (أيار) 1969، خرج الناس إلى الشوارع في مدينة كوردوبا، الواقعة في وسط الأرجنتين. انضم الطلاب والعمال، وحاصروا المباني الحكومية والرموز الاقتصادية، وفقدت المدينة فعليًا السيطرة الحكومية، وهو ما لم يكن الديكتاتور أونغانيا يتوقعه.
على الرغم من أن كوردوبا لم تطح بنظام أونغانيا، إلا أن الانتفاضة الاجتماعية متعددة الطبقات كانت نهاية سلطته المطلقة. في الذاكرة الجمعية للأرجنتينيين، سجلت كوردوبا كـ"نقطة تحول".
اللحظة الفاصلة في إيران
قد لا تكون نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 أكثر حالات القمع دموية في تاريخ النظام الإيراني، لكنها كانت نقطة تحول.
على عكس العديد من الاحتجاجات السابقة التي كانت ذات جذور سياسية أو انتخابية، بدأت نوفمبر 2019 بشرارة اقتصادية. فقد أثر الارتفاع المفاجئ في أسعار البنزين، كسلعة أساسية، بشكل مباشر على حياة الطبقات الدنيا. ومن هذا المنطلق، كانت احتجاجات نوفمبر أكبر تعبير عن الغضب الشعبي للفئات الحضرية الفقيرة والمهمشة، وهي الفئات التي كانت تُصوّر في الأدبيات الرسمية دائمًا على أنها "قاعدة اجتماعية" للنظام، ولم يسبق أن ظهرت بين صفوفها احتجاجات منظمة بالشكل السابق.
هذا التمايز دفع النظام إلى رد فعل أشد، لأنه اعتبر احتجاج الفئات الدنيا تهديدًا جوهريًا.
وقال القائد في الحرس الثوري، سعيد قاسمي: "يجب أن نخاف من اليوم الذي يتحد فيه أصحاب الصنادل وأحذية (ملّي) من شوش وشاه عبدالعظيم؛ في ذلك اليوم علينا الهرب"، وقد خافوا وأطلقوا النار.
منذ تأسيس إيران، حافظت بعض الفئات على مسافة من النظام، وواجهت القمع أو الإعدام أو أُجبرت على الهجرة. وقد تمت تصفية عدد كبير من معارضي النظام خلال "السنوات السوداء" في الثمانينات، خصوصًا في صيف 1988.
في عام 1999، كنت ما زلت في إيران ورأيت كيف تكوّن الشرخ بين الأجيال المطالبة بالحرية والنظام الحاكم.
وبعد عقد، في 2009، خرج الناس بالملايين إلى الشوارع، لكن نوفمبر 2019 كان "لحظة الشرخ" الحقيقية، لأن أكثر الفئات غير السياسية في المجتمع شاركت، وتم قمعها بالرصاص الحي.
وإذا كانت احتجاجات 1999 قد ركزت على طهران والجامعات، واحتجاجات 2009 قد تركزت في المدن الكبرى وطبقة الوسط الحضرية، فإن نوفمبر 2019 كانت ظاهرة وطنية شاملة. حيث أدى اندلاع الاحتجاجات تقريبًا في وقت واحد في المدن الصغيرة والمناطق المهمشة إلى جعل نموذج السيطرة الأمنية الكلاسيكي غير فعال، كما كانت سرعة انتشار الاحتجاجات من سمات هذه الفترة النادرة، المشابهة لانتفاضة 2022، لكن دون حدث رمزي مثل مقتل مهسا أميني.
في نوفمبر 2019، كانت مستويات العنف الحكومي غير مسبوقة. وأظهرت تقارير مستقلة، بما فيها تقارير منظمات حقوق الإنسان، مقتل المئات خلال أيام قليلة. واستخدام الأسلحة الحربية ضد المحتجين، واستهداف الرأس والصدر مباشرة، وشدة الاعتقالات، كانت مؤشرًا على قرار أمني من أعلى مستويات السلطة لإنهاء الاحتجاجات بسرعة وبحسم.
واحدة من أبرز سمات نوفمبر 2019 كانت الانقطاع شبه الكامل للإنترنت في جميع أنحاء البلاد لمدة أسبوع، وهو إجراء غير مسبوق في تاريخ النظام الإيراني، بهدف قطع تدفق المعلومات ومنع تنسيق المحتجين ونشر صور القمع.
في الاحتجاجات السابقة واللاحقة مثل 2009 أو 2022، كانت هناك اضطرابات في الإنترنت، لكنها لم تصل إلى الانقطاع الكامل، لذا يُعد نوفمبر 2019 نموذجًا للقمع "الهجين" متعدد الأبعاد في إيران.
لقد عمّق نوفمبر 2019 الهوة بين المجتمع والنظام وأدى إلى انتشار عدم الثقة في النظام وهيكل السلطة.
إن نوفمبر 2019 وضع حداً نهائياً لأي فرص للإصلاحات الحكومية، وأصبح رمزًا لغضب وقمع الشعب، وهو ما تجدد لاحقًا في شعار وانتفاضة 2022.
وخلال انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية"، كتب المواطنون على الجدران وصفحات التواصل الاجتماعي: "نوفمبر مستمر...".

فقدت مئات الأمهات أبناءهن برصاص قوات النظام الإيراني إثر احتجاجات نوفمبر (تشرين الثاني) 2019. وهؤلاء النساء، اللاتي عرفن لاحقًا باسم "أمهات نوفمبر الساعيات للعدالة"، لعبن دورًا مهمًا من خلال صمودهن ومقاومتهن السلمية.
كان حضورهن المستمر في التجمعات، ومتابعة القضايا القضائية، وتوثيق الأحداث، والتعبير الشجاع عن مطالبهن، سببًا في تحويلهن إلى صوت مسموع لعائلات الضحايا، وهو صوت وصل عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي إلى المجتمع الإيراني والرأي العام العالمي.
ولا يمكن تحليل تجربة "أمهات نوفمبر 2019" دون الإشارة إلى الخلفية التي أرستها من قبلهن "أمهات خاوران" و"أمهات حديقة لاله".
فـ"أمهات خاوران"، اللاتي فقدن أبناءهن في الإعدامات الجماعية خلال الثمانينات ودفنوا بلا أسماء، صمدن لعقود في وجه القمع والتهديد والاستبعاد. وكنّ يتحركن في زمن لم تكن فيه وسائل إعلام مستقلة، ولا إمكانية لطرح مطالب عامة.
مع ذلك، أسس هؤلاء النساء حجر الزاوية للمطالبة بالعدالة الحديثة في إيران، وكثير منهن دفعن ثمن هذه المقاومة حتى نهاية حياتهن.
أما "أمهات حديقة لاله"، اللاتي فقدن أبناءهن في احتجاجات عام 2009، فاستكملن الخطوة الثانية في هذا المسار. ورغم الجهود الكبيرة، والقيود السياسية، وغياب شبكات الإعلام الحديثة، لم يكن بالإمكان تشكيل تكتل واسع، وكان بعض شرائح المجتمع يجد صعوبة في الانضمام إلى هذه المطالب بسبب الأوضاع الأمنية والانقسامات السياسية.
ظهور "أمهات نوفمبر" في مجتمع مختلف
ظهرت "أمهات نوفمبر" في عام 2019 في مجتمع اختلف عن السابق؛ مجتمع وفرت فيه وسائل التواصل الاجتماعي إمكانية الوصول إلى روايات مستقلة، وفتحت آفاقًا جديدة للتعاطف بين مختلف طبقات الناس.
هذا الاختلاف التاريخي سمح بأن تتجاوز المطالبة بالعدالة في 2019 الدوائر المحدودة السابقة، لتصبح مطلبًا وطنيًا.
وتزامن ظهور "أمهات نوفمبر" مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وإمكانية التوثيق المستقل. واستطعن، مستفيدات من تجربة أمهات خاوران وأمهات لاله وباستخدام أدوات الاتصال الحديثة، إنشاء شبكة واسعة من العائلات، والناشطين في مجال حقوق الإنسان، والصحافيين.
لهذا السبب، أصبحت "أمهات نوفمبر" جسرًا بين أجيال الساعيات للعدالة والمجتمع؛ جسرا نقل المطالبة بالعدالة من دائرة عائلات الضحايا إلى مستوى الرأي العام.
أما "أمهات خاوران"، فبسبب الأوضاع المغلقة في الثمانينات، لم يجدن الدعم إلا من داخل العائلات ومن عدد محدود من المثقفين والصحافيين. وفي مجتمع يولي احترامًا خاصًا لأمهات ضحايا الحرب، لم تُمنح الأم التي أُعدم ابنها- فقط لاختلافه في المعتقد السياسي- حتى الحق في إقامة مراسم بسيطة.
وفي عام 2009، جاء الدعم الاجتماعي أساسًا من شرائح ابتعدت عن السلطة أو كانت تتحرك ضمن حدود الإصلاح، أما في 2019، فكان التعاطف العام أوسع بكثير وواضحًا، متأثرًا بالوضع الاقتصادي والانزعاجات السياسية.
وقد دفعت "أمهات نوفمبر"، مثل الأجيال السابقة، ثمنًا باهظًا للمقاومة والمطالبة بالعدالة، مثل: الاعتقال والسجن والطرد من العمل و الإكراه على مغادرة مكان السكن والتهديد بالقتل والضغط على أفراد الأسرة.
ورغم هذه الضغوط، لم تتراجع هؤلاء الأمهات. ووجدن بعضهن بعضًا، وتواصلن مع أمهات خاوران وأمهات لاله، وشاركن الخبرات، وواصلن النضال.
التأثير الدولي؛ إحراج متزايد للنظام الإيراني
أدى التوثيق الدقيق الذي قامت به "أمهات نوفمبر" حول ما حدث لأبنائهن إلى تعريض النظام الإيراني مرة أخرى لفقدان واسع للمصداقية على الصعيد الدولي، وهذه المرة بسبب حجم ودقة الوثائق، فلم تتمكن المنظمات الحقوقية والمجتمع الدولي من تجاهل هذه الأحداث.
وتظهر ردود فعل الدول الأوروبية، وتقارير المنظمات الحقوقية، والتغطية الإعلامية الواسعة، أن مطالبة هؤلاء الأمهات بالعدالة حازت صدى عالميًا.
وبالرغم من الفوارق الزمنية، وأدوات الاتصال، والظروف السياسية، تشترك أجيال الأمهات الساعيات للعدالة - خاوران، لاله، ونوفمبر- في صفة واحدة: الصمود السلمي من أجل العدالة.
فقد وضعت "أمهات نوفمبر"، مستلهمات من أمهات خاوران ولاله، المطالبة بالعدالة في مرحلة جديدة، حيث يلعب التوثيق، ووسائل التواصل الاجتماعي، وبناء الشبكات الاجتماعية، والتعاون الجماعي دورًا أساسيًا.
وتستمر حركة "المرأة، الحياة، الحرية" وموجة الاحتجاجات الحديثة على هذا الطريق، الطريق الذي تعمل النساء والأمهات الإيرانيات على بنائه منذ عقود.
وتؤمن "أمهات نوفمبر" بأن المطالبة بالعدالة لا تتحقق دون مشاركة الناس واستمرار المطالبة. ويطلبن من المجتمع أن يعكس أصواتهن، ويحافظ على الروايات حية، ويساندهن في هذا المسار الطويل نحو الحقيقة والعدالة
وتؤكد الأمهات أن المطالبة بالعدالة ليست مطلبًا شخصيًا، بل هي مطلب اجتماعي يتحقق فقط من خلال الحضور الجماعي.

بينما تعيش العاصمة الإيرانية طهران أسوأ أزمة مياه في ذاكرتها الحية، لا توجد حالات عالمية حديثة تقدّم دروسًا أوضح من تجربة مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا عام 2018.
فإنّ النجاة الضيقة التي حققتها كيب تاون من "اليوم صفر" تقدّم نموذجًا عمليًا حول كيف يمكن لطهران أن تتجنب انهيارًا مشابهًا لما يهددها الآن.
وقد شدّد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الأسبوع الماضي على خطورة الوضع من خلال أحد أكثر التحذيرات صراحةً التي صدرت عن أي زعيم إيراني، إذ قال: "من دون أمطار، قد تضطر طهران في يوم من الأيام إلى الإخلاء الكامل".
وعادةً ما تتلقى طهران ما بين 50 إلى 60 مليمترًا من الأمطار في شهري أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني)، لكن هذا العام لم تهطل أي أمطار، والتوقعات الجوية لا تبعث على الأمل.
وقد وصف مسؤولو المرافق هذا النقص بأنه "غير مسبوق"، مؤكدين أن تحذير الرئيس "جاد"، وأن المدينة "لم يعد لديها أي فائض مائي للاستهلاك الزائد".
الصورة قاتمة: مدينة ضخمة تدخل فصل الشتاء من دون هطول أمطار يُذكر، ومستويات المياه الجوفية في هبوط حر، وأنماط استهلاك تتجاوز الحدود البيئية بكثير.
كيف نجت كيب تاون من حافة الهاوية
واجهت كيب تاون، وهي مدينة يبلغ عدد سكانها 4 ملايين نسمة، أسوأ جفاف خلال أربعة قرون بدءًا من عام 2015، حين انخفضت أمطار الشتاء إلى أقل من نصف متوسطها طويل الأمد لثلاث سنوات متتالية.
وبحلول عام 2018، حذّر المسؤولون من "اليوم صفر"- اللحظة التي تنخفض فيها مستويات الخزانات إلى درجة لا تسمح بضخ المياه في الأنابيب.
انتشر الخوف بسرعة: طوابير لشراء المياه المعبأة، وارتفاع حاد في أسعار صهاريج المياه، وتوترات اجتماعية متزايدة. لكن بدلًا من فقدان السيطرة، استجابت سلطات المدينة باستراتيجية منضبطة بشكل غير اعتيادي، اعتمدت على تقليص صارم للطلب وشفافية كاملة.
الإجراءات التي اتُخذت شملت:
فرض حد يومي قدره 50 لترًا للفرد الواحد.
زيادة حادة في التعريفات، بحيث يدفع أصحاب الاستهلاك العالي ما يصل إلى عشرة أضعاف أكثر من غيرهم.
إطلاق حملة عامة تحت شعار "كل قطرة مهمة".
نشر مستويات الخزانات وتاريخ "اليوم صفر" المتوقع عبر الإنترنت يوميًا.
إنشاء وحدات تحلية صغيرة، وتوسيع نطاق إعادة استخدام مياه الصرف، واستخراج محدود للمياه الجوفية كمصادر بديلة.
تقديم إعانات إضافية للأسر ذات الدخل المنخفض لضمان العدالة.
وكان التأثير مذهلًا: انخفض استهلاك المياه بأكثر من 55 في المائة خلال أقل من عامين، من 1.2 مليار لتر يوميًا إلى نحو 500 مليون لتر.
وحين عادت الأمطار أخيرًا عام 2018، امتلأت الخزانات مجددًا. لكن الدرس الأعمق بقي راسخًا: العمل الجماعي الشفاف يمكن أن يغيّر السلوكيات على نطاق واسع.
استهلاك مرتفع وتسرب واسع
يبلغ متوسط استهلاك المياه في المنازل بطهران ما بين 250 إلى 300 لتر للفرد يوميًا- أي ضعف ما هو عليه في العديد من الدول المتقدمة تقريبًا. كما أن نحو ثلث مياه المدينة يتسرب عبر شبكة الأنابيب المتهالكة.
ومع ذلك، ما تزال السياسات تركز على مشاريع نقل المياه واسعة النطاق التي تؤجل الأزمة بدلًا من حلها.
وقد أدى الإفراط في ضخ المياه لعقود إلى عجز سنوي في خزانات المياه الجوفية لطهران يبلغ نحو 130 مليون متر مكعب، مع خسائر تراكمية خلال أربعين عامًا تقارب 5 مليارات متر مكعب.
وتواجه المناطق الجنوبية من المدينة الآن تسارعًا في ظاهرة هبوط الأرض، التي حذّرت هيئة المسح الجيولوجي الإيرانية من أنها تشكل "تهديدًا مباشرًا" للبنية التحتية في العاصمة. ومتى ما انهارت الطبقات الجوفية، لا يمكن استعادتها.
ما الذي يمكن فعله؟
حوّلت كيب تاون الخوف إلى نقطة تحول. أما طهران فلم تبدأ بعد مثل هذا النقاش الصادق. فسنوات من انعدام الثقة بين الدولة والمجتمع جعلت من الصعب جدًا تعبئة التعاون العام.
وبالاستناد إلى تجربة كيب تاون، تبرز خمسة إجراءات قابلة للتنفيذ فورًا لطهران:
الطلب قبل الإمداد: يجب أن تأتي صيانة الشبكة، والتسعير الواقعي، وتثقيف الجمهور في مرتبة أعلى من مشاريع نقل المياه الجديدة.
الشفافية تبني الثقة: يحتاج المواطنون إلى بيانات واضحة ومنتظمة حول مستويات الخزانات ومعدلات الاستهلاك.
توسيع نطاق إعادة التدوير: يمكن لمياه الصرف المعالجة المنزلية والصناعية أن تلبي جزءًا كبيرًا من الطلب.
حماية الفئات الضعيفة: يجب أن تراعي سياسات التسعير والتقنين الأسر منخفضة الدخل لتجنّب تحميلها أعباء غير عادلة.
توحيد الإدارة: إنّ تشتت الصلاحيات هو العقبة الأكبر؛ تحتاج طهران إلى هيكل قيادة موحد.